أهم عنصر للحياة هو الماء، وعند تأسيس المدن الكبيرة تاريخيّاً كانت دائماً ما تبنى بالقرب من مصادر المياه. إما على ضفاف الأنهار، أو على شواطئ البحار. لا توجد في أي من دول الخليج مصادر مياه نهرية، ولذلك فقد تكوّنت غالبية المدن على ضفاف شواطئ الخليج.
اكتشاف النفط وتصديره غير المورد الأهم لبناء هذه المدن، فتحوّل أهم مقومات الحياة من الماء إلى النفط. تعتمد غالبية مدن الخليج بشكل شبه مطلق على تحلية مياه البحر كمصدرها الرئيس للمياه، وغنيٌّ عن القول؛ إن هذا المصدر يحتاج إلى جرعات مكثفة من الطاقة لتحليتها، ما يجعلها مكلفةً جدّاً، ولولا التكنولوجيا الحديثة وموارد الطاقة من نفط وغاز لما كان بالإمكان القيام بهذه العملية.
بعض المدن، كالرياض، تقع على بعد مئات الكيلومترات من سواحل البحر ومن أي مصدر مياه رئيسي، وهذا يحتاج إلى تغذية المدينة يوميّاً عبر نقل المياه المحلاة مئات الكيلومترات من سواحل الخليج إلى قلب شبه الجزيرة العربية الصحراوي.
تاريخيّاً، طالما كان الوضع المائي والبيئي والغذائي في دول مجلس التعاون هشّاً، فالبيئة في هذه المنطقة قاحلة وتفتقر إلى مقومات الماء والزراعة، وهي بذلك غير مهيأة بطبيعتها لتوفير مقومات المعيشة الأساسية لكتلة ضخمة من البشر، ولذلك دائماً ما كانت هذه المنطقة ذات كثافة سكانية ضئيلة نسبيّاً في عصر ما قبل النفط. وفي الماضي القريب كان الجفاف والقحط مخاطر تهدّد الحياة بشكل دوري في أقطار شبه الجزيرة العربية، وكانت الكتل البشرية تضطر إلى الترحال والنزوح فيما بين ضفاف الخليج وأقطار شبه الجزيرة العربية بشكل دوري (كما حصل مؤخراً في عشرينات القرن الماضي).
قلما نفكر في هذه الأمور، لأن جيلنا تعود أنه عندما يفتح الحنفية؛ فالمياه ستتدفق، وعندما نضغط على زر صغير في الحائط سينبلج النور، وإن أحسسنا بالجوع نذهب إلى أقرب دكان ونتبضع ما أردنا من أنواع الفواكه والخضراوات واللحوم المستوردة من كل بقاع العالم. وننسى أن وراء هذه الخطوات الصغيرة جهودٌ جبارةٌ ومكلفةٌ لتزويد الطاقة واستيراد الغذاء ولتحلية مياه البحر وجعلها صالحة للاستهلاك. وننسى أيضاً أن العنصر الأساسي الذي جعل كل هذا ممكناً هو النفط والغاز، فالطاقة الصادرة منهما هي التي مكّنت من تحلية المياه وإنتاج الكهرباء، وإيراداته هي التي مكّنتنا من استيراد المواد الغذائية التي نعيش عليها.
تكفي نظرة خاطفة على وضعية المياه في دول الخليج لنبين هشاشة الوضع المعيشي فيها. ارتفعت كمية استهلاك المياه منذ اكتشاف النفط بشكل جنوني، حيث تضاعفت عشرات المرات (في الكويت كمثال، زاد استهلاك المياه أكثر من 150 ضعفاً في ثلاثين سنة بحسب المصادر الرسمية). وأصبحت دول الخليج تسجّل بشكل دوري اليوم أعلى معدلات استهلاك للمياه في العالم (يستهلك الشخص في الكويت حوالي 500 لتر يوميّاً، بينما في انجلترا، كمثال، يستهلك الشخص 150 لتراً يوميّاً). تنتج غالبية هذه المياه (حوالي الثلثين) بواسطة محطات تحلية مياه البحر، وهي عملية صعبة ومكلفة ليست فقط في إنتاجها بل أيضاً في تخزينها.
في الإمارات، وقد تكون أكثر دول الخليج تقدماً في هذا المجال، يكفي المخزون الاستراتيجي للمياه لحوالي ثلاثين يوماً، بينما في البحرين؛ فإن المخزون الاستراتيجي بالكاد يكفي يوماً واحداً. هذه الأرقام في بيئة هي في الأساس صحراوية قاحلة، وتفتقر إلى مصادر المياه المتجددة كالأنهار؛ تدعو إلى الحيطة والتفكير الجدي في استراتيجية النمو الاقتصادي والسكاني المتصاعد في دول مجلس التعاون. فلو، لا قدّر الله، حصلت كارثة أو حرب أدت إلى إيقاف إحدى محطات إنتاج الطاقة أو تحلية المياه؛ فمن الصعب تخيّل تبعاتها.
عاشت البحرين ما يسمى بـ «الاثنين الأسود» في أغسطس/آب 2004، حين انقطعت الكهرباء لمدة يوم واحد في عز الصيف. أدى هذا اليوم إلى شبه كارثة في البحرين، فأخذت الناس تدور في سياراتها وتهرع إلى أقرب «سوبرماركت» لديه مولد طاقة خاص، حتى يتسنى للناس الوقوف أمام ثلاجات الأكل والتبرد. وقد يكون الأخطر من هذا كله أن انقطاع الكهرباء أدى إلى توقف إنتاج المياه المحلاة التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة، ما أدى إلى استهلاك المخزون الاستراتيجي للمياه بشكل شبه كامل في غضون يوم!
كل هذا يجعلنا نتساءل: بما أن بيئة البنية التحتية للحياة من مياه وغذاء وكهرباء تقف على كف عفريت في دول الخليج، وتعتمد بشكل كبير إما على الطاقة أو الإيرادات النفطية الناضبة؛ فلماذا تواصل دولها في بناء مدن ضخمة جديدة، واستقطاب سكان جدد لسكن هذه المدن، ما يقود إلى زيادة مطردة في متطلبات المياه والطاقة والغذاء؟ كل هذا في بيئة هي أصلاً غير مهيأة بشكل ملائم لكل هذه الأمور، وتعتمد بشكل رئيسي على مورد ناضب لتمويلها؟
عندما سُئل عبدالرحمن منيف عن سبب تسمية روايته الشهيرة «مدن الملح» قال: «قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهةٍ من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارةٌ عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح. فعلى رغم أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات؛ فإن أية زيادة في كميته، أي عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه، تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدناً استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى. وكما قلت مراراً، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر؛ سنكتشف أنّ هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال، وليست مكاناً طبيعيّاً لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغيّر طبيعة الحياة نحو الأفضل».
التحدي الجوهري لمدن الخليج هو: هل بإمكانها أن تتفادى السيناريو المتوقع، سيناريو «مدن الملح»؟